اقتصاد

الفقر في هولندا: التحديات والفجوات الاجتماعية في إحدى أغنى دول العالم

رغم ازدهارها الاقتصادي وتصدرها قائمة الدول الأكثر رخاءً، تواجه هولندا تحديات مستمرة مع ظاهرة الفقر. وفي حين يستمر أغنى الهولنديين بالثراء، حيث ازدادت ثرواتهم بنسبة 5% وفقا لقائمة ”Quote 500” للأثرياء، إلا أن نحو 3.1% من سكان البلاد، أي حوالي 540,000 شخص، ما زالوا يُصنّفون كفقراء. هذه النسبة تعكس صورة معقدة لدولة تعد واحدة من أكثر المجتمعات رفاهية في العالم.

الفقر فوق خط الرخاء في هولندا

تُظهر الإحصاءات أن أكثر من مليون شخص يعيشون بقليل فوق خط الفقر الرسمي في هولندا، وغالبا دون أي مدخرات أو أصول تمكنهم من مواجهة الأزمات الطارئة. أكثر من 100,000 شخص يعتمدون على بنوك الطعام أسبوعيا، حيث تشير التقديرات إلى أن مئات الآلاف الآخرين يمكنهم الاستفادة من المساعدات لكنهم يمتنعون، إما خوفا من السلطات أو لشعورهم بالخجل.

إعادة تعريف الفقر

مؤخرا، تم اعتماد معايير جديدة لتعريف وقياس الفقر في هولندا، أعدها كل من مكتب الإحصاء المركزي (CBS) ومعهد البحوث الاجتماعية (SCP) ومعهد نيبود لشؤون الأسرة. وقد كان الدخل معيار القياس سابقًا، إلا أن المنهج الجديد يضيف المدخرات والأصول القابلة للاستخدام ضمن المعايير. بناءً على هذه التغييرات، يُعتبر الفرد فقيرا إذا كان دخله الشهري أقل من 1,510 يورو، بينما تُصنّف الأسرة المكونة من زوجين وطفلين كفقيرة إذا كان دخلها الشهري أقل من 2,535 يورو.

التوجهات التاريخية للفقر في هولندا

في عام 2018، كان 7.1٪ من السكان يعيشون تحت خط الفقر، لكن هذه النسبة انخفضت في السنوات اللاحقة بفضل زيادات الأجور والمساعدات الحكومية أثناء جائحة كوفيد-19. في عامي 2022 و2023، استمر هذا الانخفاض بفضل تدابير دعم القدرة الشرائية وتعويضات ارتفاع أسعار الطاقة. لكن على الرغم من ذلك، تشير منظمات مثل مؤسسة ”ArmoedeFonds” إلى ارتفاع طلبات المساعدة، حيث لاحظت زيادة في عدد الأطفال الذين يطلبون مستلزمات مدرسية أساسية، مما يعكس استمرار الحاجة للدعم.

تفاوت الثروات: هل يوجد مساواة؟

فيما يتعلق بالدخل، تعد هولندا من أكثر دول الاتحاد الأوروبي مساواةً، حيث تأتي في المرتبة الخامسة من حيث انخفاض الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ومع ذلك، إذا تم قياس التفاوت من حيث الثروة الكلية، فإن الفجوة تصبح واسعة؛ حيث أظهر تقرير أوروبي أن هولندا تأتي بعد الولايات المتحدة من حيث التفاوت في الثروة. وتعود هذه الفجوة جزئيا إلى ارتفاع ديون الأسر الهولندية، وخاصةً تلك المتعلقة بالرهن العقاري.

الفقراء العاملون: ظاهرة متنامية

رغم أن معظم الفقراء في هولندا يعتمدون على الإعانات، إلا أن هناك شريحة متزايدة من العمال ذوي الدخل المنخفض يواجهون صعوبات مالية. ويعود ذلك جزئيا إلى ارتفاع نسبة العمل بدوام جزئي، ما يحد من ساعات العمل الكافية لتحقيق دخل مستقر. وتشير التقديرات إلى أن عدد العاملين الذين يعانون من نقص في الدخل أعلى من المستفيدين من الإعانات. ويبلغ الحد الأدنى للأجور الهولندي حاليا 13.68 يورو في الساعة، ما يعادل حوالي 28,454 يورو سنويا لمدة 36 ساعة أسبوعيا.

بنوك الطعام: دعم ضروري لمواجهة نقص الغذاء

وفقا لتقرير أصدره الصليب الأحمر في وقت سابق من هذا العام، يعاني شخص من بين كل سبعة أشخاص في هولندا من نقص في الغذاء أو نظام غذائي غير متوازن بسبب قلة المال. وتدير مؤسسة بنك الطعام ”Voedselbank”، وهي الاتحاد الوطني لبنوك الطعام في هولندا، 178 مؤسسة تعمل في 550 نقطة توزيع في جميع أنحاء البلاد. تقدم هذه المؤسسات الدعم لأكثر من 100,000 أسرة أسبوعيًا، ويُقدر أن حوالي 300,000 شخص إضافي مؤهلين للحصول على هذه المساعدات لكنهم لا يتلقونها.

المهاجرون والفقر: خطر مضاعف

تشير البيانات إلى أن الأطفال المولودين خارج هولندا أو من أسر مهاجرة يعانون من معدلات فقر مرتفعة. ووفقا للإحصاءات، يُصنف حوالي 19% من الأطفال المولودين خارج هولندا كفقراء، بينما تصل نسبة الفقر بين الجيل الثاني إلى 10.8%. كما أن اللاجئين السوريين والأفغان والإريتريين يواجهون مخاطر أكبر؛ حيث يُعتبر نصف السوريين في هولندا فقراء.

الاستراتيجيات الحكومية: وعود بحاجة إلى التنفيذ

كان موضوع الأمن الاجتماعي الاقتصادي، أو “Bestaanszekerheid” كما يُعرف في الهولندية، من أبرز محاور الانتخابات العامة في العام الماضي. وقد تعهدت الأحزاب السياسية بزيادة الحد الأدنى للأجور وتخفيض الضرائب واتخاذ خطوات جادة لمكافحة الفقر. ومع ذلك، وعلى الرغم من وعود الحكومة، كانت التأثيرات على الفئات الأشد فقرًا محدودة، حيث أشارت التقارير إلى زيادة بسيطة بنسبة تقل عن 1% في القدرة الشرائية لهذه الفئات، وتأجيل زيادات الحد الأدنى للأجور التي تم التعهد بها.

تظل قضية الفقر في هولندا تحديًا متناميًا، حيث تشير الأرقام إلى ضرورة اتخاذ تدابير فاعلة ودائمة لضمان الحد من الفجوات الاجتماعية وتوفير حياة كريمة للجميع، بما يتناسب مع مستوى الازدهار الذي يعرف عن البلاد.

اترك تعليقاً

error: انتبه المحتوى محمي بموجب قانون النشر!!

أنت تستخدم أداة حظر الإعلانات

لقراءة المقالة، يرجى إيقاف أداة حظر الإعلانات